في قلب كل أسرة تكمن مشاعر الحب والمودة، لكن القدرة على التعبير عنها بصدق ووضوح ليست أمرًا فطريًا دائمًا، بل قد تعوقها تجارب الماضي وظروف النشأة. في السياق الإرتري تحديدًا، تتضح هذه الإعاقة بصورة أكثر تعقيدًا، حيث تراكمت سنوات الحرب والتهجير والمعاناة، وخلّفت جراحًا جماعية طالت بنية المجتمع النفسي والعاطفي، وانعكست بشكل مباشر على العلاقات الأسرية، وبخاصة بين الزوجين.
الجفاف العاطفي.. ظاهرة صامتة في الأسر الإرترية
عانى المجتمع الإرتري لعقود من الحروب والشتات، وتعرضت أجيال كاملة لفقدان الأمن والاستقرار، وانتقلت من حياة القرية والمجتمع المتماسك إلى بيئات المهجر المختلفة، التي لم تكن دائمًا حاضنة آمنة نفسيًا وثقافيًا. وكنتيجة طبيعية، تشكّلت منظومة أسرية يغلب عليها الانشغال بالبقاء المادي، على حساب.
التواصل العاطفي والتفاهم النفسي.
في كثير من البيوت الإرترية، خاصة بين الزوجين، يغيب التعبير اللفظي عن الحب، وتُستبدل العبارات الحانية بالصمت، أو بأدوارٍ تقليدية تُفسر كدليل على المحبة (كالإنفاق أو القيام بالواجبات المنزلية)، لكن دون إشباع واضح للحاجة العاطفية للكلمة الطيبة أو اللمسة الحانية أو النظرة الحانية.
أثر المهجر: بين الانفتاح والضياع
نشأت أجيال جديدة من الإرتريين في المهجر، داخل بيئات مختلفة ثقافيًا واجتماعيًا. بعضهم تأثر بالنماذج الغربية للتواصل العاطفي داخل الأسرة، حيث الحوارات مفتوحة، والتعبير عن الحب أمر طبيعي بين الزوجين وأمام الأبناء. لكن هذا التأثر غالبًا ما يُواجه بتضارب داخلي نتيجة القيم التقليدية التي نشأ عليها الوالدان، فيحدث الانفصال بين المشاعر والرغبة في التعبير عنها، فتُكبت مجددًا. وهكذا، تنشأ فجوة بين الأجيال داخل الأسرة، حيث يفتقد الأبناء إلى الدفء العاطفي من والديهم، ويُحرج الأزواج من التعبير لبعضهم البعض، وتستمر دائرة الجفاف العاطفي رغم تحسّن ظروف العيش.
لماذا يجب أن نُعبر عن الحب والمشاعر الإيجابية؟
- لأنها فطرة إنسانية: البشر بحاجة إلى الحب كما يحتاجون إلى الطعام. والزوجان اللذان يُعبران عن مشاعرهما بإيجابية، يخلقان بيئة أسرية صحية يشعر فيها الأبناء بالأمان.
- لأنها وسيلة للوقاية من التفكك: في بيئة المهجر، حيث تتنوع المؤثرات وتكثر الضغوط، يصبح التواصل العاطفي خط دفاع أول ضد الخلافات والانهيارات الأسرية.
- لأنها تداوي جراح الماضي: كل تعبير إيجابي هو بمثابة إعادة ترميم للذاكرة الجمعية المثقلة بالحرب والفقد. حين يُقال “أنا أحبك” بصدق، نواجه بها وجعًا قديمًا ونكسر نمط الصمت الموروث.
خطوات عملية لإحياء الدفء العاطفي في الأسرة
- البدء بالكلمة الطيبة: اجعل “شكرًا”، و”أحبك”، و”أنت تعني لي الكثير” جزءًا من يومك.
- اللمسة الحانية: عناق بسيط، إمساك باليد، أو نظرة تقدير، لها مفعول أقوى من كثير من الكلام.
- الحوار الهادئ المنتظم: اجعل هناك وقتًا أسبوعيًا لحوار صادق بين الزوجين، بعيدًا عن ضغوط الحياة.
- المشاركة العاطفية أمام الأبناء: لا تخجل من إظهار الحب لزوجتك أو زوجك أمام أبنائك، فهذا يعزز لديهم الشعور بالأمان والتوازن النفسي.
- كسر النمط بالقدوة: حتى من نشأ في بيئة صامتة، يمكنه أن يُعيد تشكيل نمط جديد في حياته الزوجية.
ختامًا
الشفاء من الجفاف العاطفي لا يحدث بقرارات كبيرة، بل بخطوات صغيرة، مستمرة، وشجاعة. ومجتمعنا الإرتري، رغم ما مر به من آلام، يحمل في طياته طاقة حب كبيرة تستحق أن تُحرّر وتُعبر عن نفسها. فلنبدأ من بيوتنا، من كلمة، من ابتسامة، من عناق… فالحب، حين يُقال ويُظهر، لا يداوي فقط، بل يُحيي.